الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

سبسطية: جولة ترقب بدهشة أسرار الحضارة..لنور حمد

بقلم نور حمد

تأملتُ الأعمدة المصطفة دهراً والمدرجات المنقوشة منذ قرون في سبسطية شمال نابلس؛ على وقع لهفة شوق يسكن القلب لبلدة عريقة لم أرها منذ ولادتي، شعرتْ أن  الروح رقصت برجفة لأزقة قديمة عندما عانقتها على العاشرة من صباح يوم الجمعة الماضي.

 أطلتْ البلدة الأسطورية من انثناءاتٍ تاريخية، لم أدركُ حقيقة ما أراه وكأنني تعرضتُ للتو إلى صعقة هزت كياني: "سبسطية" رواية تاريخٍ حافل زُرع على أرضه تلك القرية الأثرية التي يعود تاريخها إلى عصور مختلفةٍ أهمها العصر الروماني، والواقعة على بعد 18 كم شمال غرب نابلس، تشتهر بلباسٍ أخضر رائع يكسوها في فصل الربيع، ويغطي مساحات من الحجارة العتيقة التي تتناثر بين جنباتها، مستفزةً الزائر لمعرفة حكايتها وكيف وجدت هناك؟.

لم يخطر في بالي حينما وضعت منشور على موقع التواصل الإجتماعي الفيسبوك  " الجولة الثانية لباص السوشال ميديا إلى سبسطية والجبل الأثري والمدرج الروماني وقرية كور" أنني سأزور بلدة تُفصح بحجارتها العتيقةعن تاريخها" ففي القرن التاسع قبل الميلاد بنى "الملك عمري" مدينة السامرة في تلك المنطقة، لتتعاقب عليها السلطة الآشورية فيما بعد، وتتحوَّل إلى مدينة "هلينية" ولكنها دمرت بعد أعوام من الحروب ، وفي القرن الثاني بعد الميلاد أعيد بناء المدينة من قبل الإمبراطور "سبتيموس سفيروس"، وتعود الآثار الموجودة حالياً إلى تلك الفترة، ومنحت المدينة في عهده حقوق المستعمرات الرومانية، وقد أخذت "سبسطية" اسمها من "سباستي" والتي تعني باليونانية "أغوستا" أثناء حكم أولوس غابنوس لها في عام 30 قبل الميلاد.

آذان يعلو أقدم مقام
وقفتُ في منتصف الطريق أفقلتُ العينين و فتحتُ الأذنين، سمعتُ صوتَ الآذان لأول مرة من مسجد مقام النبي يحيى معلنا بدء خطبة وصلاة الجمعة ركضتُ بملء الطفولة فييّ لتقبّل قدميّ باحات المسجد الذي أراه لأول مرّة ، إستمعت لخطبة الجمعة وصليت ركعتي الظهر خاشعا وداعيا لله أن يحفظ هذه البلدة.

يذكر أن "رفات" سيدنا يحيى -عليه السلام- مدفونةً في سبسطية بعد أن قتله الحاكم الروماني هيرودوس، وأن كنيسة بيزنطية أقيمت فوق ضريحه في فترة الحروب الصليبية، ولكن القائد صلاح الدين الأيوبي بنى بجانبها مسجداً دون أن يهدمها في عام 1187، وهو الأمر الذي يبين احترام الدين الإسلامي للديانات الأخرى، كما أضاف السلطان العثماني عبد الحميد جزءاً للمسجد وأقام له مئذنة.

واصلتُ مع القافلة السير إلى مقبرة الملوك التي  سرقت آخر ما تبقى من أنفاسي،  حينما وقفت على السور لم أستطع التفوّه بشيء سوى “يا الله” ويداي تعتصران رأسي ورئتاي تعملان بشكل أكبر في استنشاق أكبر قدر ممكن من هواء لعلها تسعفني بإنقاذ عيناي من دهشة ما أشاهد من عمق تاريخي بالبناء.

"مقبرة الملوك والتي دفن فيها أحد ملوك الرومان، يشير مظهر المقبرة الخارجي إلى عظمة العمارة ودقتها في تلك الفترة التاريخية، وذلك من خلال دقة نقش التماثيل على القبور".

في الساحة الرئيسة أعمدة مُكسرة ، فما إن تصل لذلك المكان ولأطرافه، لتستدل من خلاله على ماضٍ عريق، وتستنشق رائحة عبق الماضي المتأصلة من الزمن والعهد الروماني، وتتنسم حاضراً أثرياً، رغم حسرة تئن في القلوب، منطلقها وسببها: سيطرة إسرائيلية، وإهمال وعدم ترميم إنه "المدرج الروماني الذي  يعود للقرن الثاني للميلاد حوالي 200 ميلادي"

تكوًن لدي إعتقاد أنه عندما كانت تغلق بوابتها الحجرية على مدخلها الغربي كان القاطنون بمدينة عكا على بعد مئات الكيلو مترات يسمعون صداها، أما الآن فلا صوت ولا صدى يسمع لها أمام محاولات السيطرةالإسرائيلية عليها والإهمال التي يفتك بها.

وكأي قريةٍ فلسطينية تعاني "سبسطية" تعاني من سياسة الاحتلال الهادفة إلى الاستيلاء على كل الآثار الموجودة في فلسطين، وحرمان أهاليها من الاعتناء بها لاستجلاب الزائرين، فالاستيطان وقرارات الهدم يفتك به.

غياب العناية
لم تشفع ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد من عمر القرية أو "المدينة الرومانية" كما أُطلق عليها، وسبعة عصور توالت على حكمها، لوقف عمليات التهويد، أو حتى إعادة الاهتمام والعناية بها، حيث ما زالت القرية تعاني الأمرين "الإهمال والتهويد".

إنها "سبسطية"..التي تحتاج من الاهتمام أكثر من مجرَّد مرور حافلة مدرسية وقتاً قصيراً، دون إلمام الطلاب بعظمة تلك الآثار الفلسطينية، والتعرف على حقيقتها وتاريخها الروماني العريق، في وقتٍ تعني فيها القرية الأثرية من إهمالا واضح.


انتهى الوقت المحدد لنا في هذه البلدة ، أخذنا نسير جماعة بخطى متثاقلة جدًا بإتجاه الحافلة التي شهدت على طاقتنا ودهشتنا وضحكاتنا قبل الوصول وهي ذاتها التي شهدت تنهيدات مليئة بالحسرة تنقلت بين مقاعدها المختلفة، الشاهدة على لحظات صمت خيّمت على الجميع نتيجة التقصير والأهمال لمنطقة نحن أولى بها وأدرى بشعابها، سارت الحافلة وصوت العجلات لا زال يتردد إلى الآن في أذني، أحسست بأن جزءًا مني بقيَّ في هذه االبلدة ولن أستطيع استرجاعه إلاعندما أستعيدُ مرة جديدة قامة الأعمدة ترتفع في سماء المدينة التي تقاوم بقوة حصارها وتدافع عن هويتها.

للقراءة من المصدر الأصلي هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق